الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (19): {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)}{وَمَنْ أَرَادَ} الظاهر على طبق ما مر عن الضحاك أن يراد بعمله أيضًا {الاخرة} أي الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} أي الذي يحق ويليق بها كما تنبئ عنه الإضافة الاختصاصية سواء كان السعي مفعولًا به على أن المعنى عمل عملها أو مصدرًا مفعولًا مطلقًا ويتحقق ذلك بالإتيان بما أمر الله تعالى والانتهاء عما نهى سبحانه عنه فيخرج من يتعبد من الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها وفائدة اللام سواء كانت للأجل أو للاختصاص اعتبار النية والإخلاص لله تعالى في العمل، واختار بعضهم ولا يخلو عن حسن أنه لا حاجة إلى ما اعتبره الضحاك بل الأولى عدم اعتباره لمكان {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} وحينئذٍ لا يعتبر فيما سبق أيضًا ويكون في الآية على هذا من تحقير أمر الدنيا وتعظيم شأن الآخرة ما لا يخفى على من تأمل.{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إيمانًا صحيحًا لا يخالطه قادح، وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيز {مِنْ} فلا تنفع إرادة ولا سعى بدونه وفي الحقيقة هو الناشئ عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب، وعن بعض المتقدمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا هذه الآية {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى {مِنْ} بعنوان اتصافه بما تقدم، وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم، والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماءً إلى أن الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أي فأولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان {كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} مثابًا عليه مقبولًا عنده تعالى بحسن القبول، وفسر بعضهم السعي هاهنا بالعمل الذي يعبر عنه بفعل فيشمل جميع ما تقدم وهذا غير السعي السابق، وقال بعضهم: هو هو؛ وعلق المشكورية به دون قرينيه إشعارًا بأنه العمدة فيها، وأصل السعي كما قال الراغب المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيرًا كان أو شرًا وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر:.تفسير الآية رقم (20): {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)}{كَلاَّ} التنوين فيه على المشهور عند النحاة عوض عن المضاف إليه لا تنوين تمكين أي كل الفريقين وهو مفعول {نُّمِدُّ} مقدم عليه أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددًا للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها شكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلًا على ما سبق تصريحًا وتلويحًا واتكالًا على ما لحق عبارة وإشارة، وقوله تعالى: {هَؤُلاء وَهَؤُلاء} بدل من {كَلاَّ} بدل كل على جهة التفصيل أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين للمضاف إليه المحذوف دفعًا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم المفعول، وقوله تعالى: {مِنْ عَطَاء رَبّكَ} أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له فهو اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول متعلق بنمد مغن عن ذكر ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل به حض التفضل كما قيل: {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ} أي دنيويًا كان أو أخرويًا.والإظهار في موضع الإضمار لمزيد الاعتناء بشأنه والإشعار بعليته للحكم {مَحْظُورًا} ممنوعًا عمن يريده بل هو فائض على من قدر له وجب المشيئة المبنية على الحكمة وإن وجد فيه ما يقتضي الحظر كالكفر، وهذا في معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين، والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بدئيتها لكل من الإمداد وعدم الحظر..تفسير الآية رقم (21): {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}{انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} كيف في محل النصب بفضلنا على الحال وليست مضافة للجملة كما توهم، والجملة بتمامها في محل نصب بانظر وهو معلق هنا، والمراد كما قال شيخ الإسلام توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم من العطايا العاجلة فمن وضيع ورفيع وظالع وضليع ومالك ومملوك وموسر وصعلوك تعرف بذلك مراتب العطايا الآجلة وتفاوت أهلها على طريقة الاستدلال بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى: {وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} أي أكبر من درجات الدنيا وتفضيلها لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية لا يقادر قدرها ولا يكتنه كنهها.وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله تعالى الجميع فما يغبط أحد أحدا» وعن الضحاك الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحدًا، وصح أن الله تعالى أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله تعالى عنه وفيهم سهيل بن عمرو وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل: وكان أعقلهم أيها القوم أني والله قد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضابًا فاغضبوا على أنفسكم دعى القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتًا من باب هذا الذي تنافسون عليه. وفي الكشاف أنه قال: إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتوهم على باب عمر لما أعد الله تعالى لهم في الجنة أكبر. وقرئ {أَكْثَرَ تَفْضِيلًا} بالثاء المثلثة، هذا وجوز أن يراد بما به الإمداد العطايا العاجلة فقط، وحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصلهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثاني إرادة ووصولًا مما يوهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوي محظورًا من أحد ممن يريد وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة إلخ، وإلى نحو هذا ذهب الحسن.وقتادة فقد روى عنهما أنهما قالا: في معنى الآية إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق، وذكر الرزق من بين ما به الإمداد قيل على سبيل التمثيل، وقيل تخصيص لدلالة السياق.وجوز أن يكون المراد به معناه اللغوي فيتناول الجاه ونحوه كما يقال السعادة أرزاق، واعتبر الجمهور عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقًا لشمول الإمداد له حيث قالوا: لا يمنعه من عاص لعصيانه. واعترض بأنه يقتضي كون القصر لدفع توهم اختصاص الإمداد الدنيوي بالفريق الثاني مع أنه لم يسبق في الكلام ما يوهم ثبوته له فضلًا عن إيهام اختصاصه وفيه تأمل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى {مِنْ عَطَاء رَبّكَ} من الطاعات ويمد بها مريد الآخرة والمعاصي ويمد بها مريد العاجلة فيكون العطاء عبارة عما قسم الله تعالى للعبد من خير أو شر، وأنت تعلم أنه يبعد غاية البعد إرادة المعاصي من العطاء ولعل نبة ذلك للحبر غير صحيحة فلا تغفل. واعلم أن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر والتقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معًا أو لم يرد شيئًا والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما تكون إرادة الآخرة ارجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين، وفي قبول العمل في القسم الأول بحث عند الإمام قال: يحتمل عدم القبول لما روى عن رب العزة جل شأنه: {أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه غيري تركته وشركه}.ويمكن أن يقال: إذا كانت إرادة الآخرة راجحة على إرادة الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد خالصًا للآخرة يجب كونه مقبولًا، وإلى عدم القبول ذهب العز بن عبد السلام، ومال إلى القول بأصل الثواب حجة الإسلام الغزالي حيث قال: لو كان إطلاع الناس مرجحًا أو مقويًا لنشاطه ولو فقد لم تترك العبادة ولو انفرد قصد الرياء لما أقدم فالذي نظنه والعلم عند الله تعالى أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب، وهذا ظاهر في أن الرياء ولو محرمًا لا يمنع أصل الثواب عنده إذا كان باعث العبادة أغلب، وذكر ابن حجر أن الذي يتجه ترجيحه أنه متى كان المصاحب بقصد العبادة رياء مباحًا لم يقتضى إسقاط ثوابها من أصله بل يثاب على مقدار قصد العبادة وإن ضعف أو محرمًا اقتضى سقوطه من أصله للاخبار، وقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره} [الزلزلة له: 7] قد لا يعكر على ذلك لأن تقصيره بقصد المحرم اقتضى سقوط قصد الأجر فلم تبق له ذرة من خير فلم تشمله الآية، واتفقوا على عدم قبول ما ترجح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين، وخص الغزالي الأحاديث الدالة بظاهرها على عدم القبول مطلقًا بهذين القسمين، وتمام الكلام في هذا المقام في «الزواجر» عن «اقتراف الكبائر»، وأما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل نمن القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن وهو فمحرم في الظاهر لأنه عبث والله تعالى.ومن باب الإشارة في الآيات: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]. فيه أربع إشارات. إشارة التقديس سبحان فهو تنزيه له تعالى عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية وعن جميع ما يرتسم في الأذهان. وإشارة الغيرة بعدم ذكر الاسم الظاهر من أسمائه الحسنى عزت أسمائه وكذا بعدم ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم. وإشارة الغيب بذكر ضمير الغائب. وإشارة السر بذكر الليل فإنه محل السر والنجوى، وعن بعض الأكابر لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وذكر غير واحد أن في اختيار عنوان العبودية إشارة إلى أنها أعلى المقامات وقد أشير إلى ذلك فيما سلف، وأصلها الذل والخضوع وحيث أن الذل لشيء لا يكون إلا بعد معرفته دلت العبودية لله تعالى على معرفته سبحانه وكمالها على كمالها، ومن هنا فسر ابن عباس قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] بقوله: إلا ليعرفون وهي تسعة وتسعون سهمًا بعدد الأسماء الإلهية التي من أحصاها دخل الجنة لكل اسم إلهي عبودية مختصة به يتعبد له من يتعبد من المخلوقين ولم يتحقق بهذا المقام على كمال مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان عبدًا محضًا زاهدًا في جميع الأحوال التي تخرجه عن مرتبة العبودية وشهد الله تعالى له بأنه عبد مضاف إليه من حيث هويته هنا واسمه الجامع في قوله سبحانه: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} [الجن: 19] ولما أمر صلى الله عليه وسلم بتعريف مقامه يوم القيامة قيد ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» بالراء أو الزاي على اختلاف الروايتين وهي لما علمت من معناها لا يمكن أن تكون نهعتًا إلهيًا أصلًا بل هي صفة خاصة لا اشتراك فيها فقد قال أبو يزيد البسطاني: ما وجدت شيئًا يتقرب به إليه تعالى إذ رأيت كل نعت يتقرب به للألوهية فيه مدخل فقلت: يا رب اذا أتقرب إليه؟ قال: تقرب إلى بما ليس لي قلت: يا رب وما الذي ليس لك؟ قال: الذلة والافتقار.وذكر أن العبد مع الحق في حال عبوديته كالظل مع الشخص في مقابلة السراج كلما قرب إلى السراج عظم الظل ولا قرب من الله تعالى إلا بما هو لك وصف أخص لإله سبحانه وكلما بعد عن السراج صغر الظل فإنه ما يبعدك عن الحق إلا خروجك عن صفتك التي تستحقها وطمعك في صفته تعالى، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وهما صفتان لله تعالى و{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] وهما كذلك وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: {أَعُوذُ بِكَ مِنكَ} وأول بعضهم الليل بظلمة الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية وقال: إن الترقي والعروج لا يكون إلا بواسطة البدن وقد صرحوا بأنه صلى الله عليه وسلم أسرى به وكذا عرج يقظة لم يفارق بدنه إلا أن العارف الجامي قال: إن ذلك إلى المحدد ثم ألقى البدن هناك وقد تقدم ذلك، وفي أسرار القرآن أن عليه الصلاة والسلام أسرى به من رؤية أفعاله إلى رؤية صفاته ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته فرأى الحق بالحق وكانت صورته روحه وروحه عقله وعقله قلبه وقلبه سره وكأنه أراد أنه صلى الله عليه وسلم حصل له هذا الإسراء وإلا فإرادة أن الإسراء الذي في الآية هو هذا مما لا ينبغي.ولا يخفى أن الإسراء غير المعراج نعم قد يطلقون الإسراء على المعراج بل قيل إنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وقد ذكروا أن الجميع الوارثين معراجًا إلا أنه معراج أرواح لا أشباح وإسراء أسرار لا أسوار ورؤية جنات لا عيان وسلوك ذوق وتحقيق لا سلوك مسافة وطريق إلى سموات معنى لا مغنى، وهذا المعراج متفاوت حسب تفاوت مراتب الرجال، وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في معراجه ما يحير الألباب ويقضي منه العجب العجاب ولم يستبعد ذلك منه بناء على أنه ختم الولاية المحمدية عندهم، ومن عجائب ما اتفق في زماننا أن رجلًا يدعى بعبد السلام نائب القاضي في بغداد وكان جسورًا على الحكم بالباطل شرع في ترجمة معراج الشيخ قدس سره بالتركية مع شرح بعض مغلقاته ولم يكنمن خبايا هاتيك الزوايا فقبل أن يتم مرامه ابتلى والعياذ بالله تعالى بآكلة في فمه فأكلته إلى أذنيه فمات وعرج بروحه إلى حيث شاء الله تعالى نسأل الله سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونقل عن الشيخ قدس سره أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة، وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن أسرًا آته عليه الصلاة والسلام كان أربعًا وثلاثين واحد منها بجسمه والباقي بروحه، وقد صرحوا أن الأول من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وفي الخصائص الصغرى وخص عليه الصلاة والسلام بالإسراء وما تضمنه من خرق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكانًاما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وأن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير مما يكون كرامة للولي، والمشهور تسمية ذلك بطي المسافة وهو من أعظم خوارق العادات؛ وأنكر ثبوته للأولياء الحنفية ومنهم ابن وهبان قال:وهذا منهم مع قولهم إذا ولد لمغربي ولد من امرأته المشرقية مثلًا يلحق به وإن لم يلتقيا ظاهرًا غريب، والكتب ملأى من حكايات الثقات هذه الكرامة لكثير من الصالحين، وكأن مجهل قائلها بني تجهيله على أن في ذلك قولًا بتداخل الجواهر وقد أحاله المتكلمون خلافًا للنظام وبرهنوا على استحالته بما لا مزيد عليه وادعى بعضهم الضرورة في ذلك، وأنت تعلم أن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير لا يتوقف على تداخل الجواهر لجواز أن يكون بالسرعة كما قالوا في الإسراء فليثبت للأولياء على هذا النحو على أن الكرامات كالمعجزات مجهولة الكيفية فنؤمن بما صح منها ونفوض كيفيته إلى من لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، ومثل طي المسافة ما يحكمونه من نشر الزمان وأنا مؤمن ولله تعالى الحمد بما يصح نقله من الأمرين والمكفر جهول والمجهول ليس برسول والله تعالى الموفق للصواب إليه المرجع والمآب؛ وأول المسجد الحرام قام القلب المحترم عن أن يطوف به مشركو القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها، والمسجد الأقصى قام الروح الأبعد من العالم الجسماني {لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا} [الإسراء: 1] أي آيات صفاتنا من جهة أنها منسوبة إلينا ونحن المشاهدون بها والأفاصل مشاهدة الفات في مقام القلب {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] قال سهل: أي إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغرفة وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم وإن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطريق عليكم لترجعوا إلينا.وقال الوراق: إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى التيسير والقبول، وقيل: غير ذلك {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هي أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] الآية أي إن هذا القرآن يعرف أهله بنوره أقوم الطرق إلى الله تعالى وهو طريق الطاعة والاقتداء بمن أنزل عليه عليه الصلاة والسلام فإنه لا طريق يوصل إلا ذلك ولله تعالى در من قال: وذكروا أن القرآن يرشد بظاهره إلى معاني باطنه وعاني باطنه إلى نور حقيقته وبنور حقيقته إلى أصل الصفة وبالصفة إلى الذات فطوبى لمن استرشد بالقرآن فإنه يدل على الله تعالى وقد أحسن من قال: ويبشر أهله الذين يتبعونه أن لهم أجر المشاهدة وكشفها بلا حجاب {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولًا}[الإسراء: 11] فيه إشارة إلى أدب من آداب الدعاء وهو عدم الاستعجال فينبغي للسالك أن يصبر حتى يعرف ما يليق بحاله فيدعو به، وقال سهل: أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار لأن في الذكر الكفاية ورا يسأل الإنسان ما فيه هلاكه ولا يشعر، وفي الأثر يقول الله تعالى شأنه من شغله ذكري عن مسألتين أعطيه أفضل ما أعطى السائلين {وَجَعَلْنَا اليل} أي ليل الكون وظلمة البدن {والنهار} أي نهار الإبداع والروح {ءايَتَيْنِ} يتوصل بهما إلى معرفة الذات والصفات {فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل} بالفساد والفناء {وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ} منيرة باقية بكمالها تبصر بنورها الحقائق {لِتَبْتَغُواْ فَضْلًا مّن رَّبّكُمْ} وهو كمالكم الذي تستعدونه {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أي لتحصوا عدد المراتب والمقامات من بدايتكم إلى نهايتكم بالترقي فيها وحساب أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم فتبدلوا السيء من ذلك بالحسن {وَكُلَّ شيء} من العلوم والحكم {فَصَّلْنَاهُ} بنور عقولكم الفرقانية الحاصلة لكم عند الكمال {تفصيلًا} [الإسراء: 12] لا إجمالًا فيه كما في مرتبة العقل القرآني الحاصل عند البداية {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] الآية تقدم ما يصلح أن يكون من باب الإشارة فيها {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] للصوفية في هذا الرسول كغيرهم قولان، فمنهم من قال إنه رسول العقل، ومنهم من قال رسول الشرع {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} [الإسراء: 16] الآية فيها إشارة إلى أنه سبحانه إذا أراد أن يخرب قلب المريد سلط عليه عساكر هوى نفسه وجنود شياطينه فيخرب بسنابك خيول الشهوات وآفات الطبعيات نعوذ بالله تعالى من ذلك {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة} لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يصلاها مَذْمُومًا} عن ذوي العقول: {مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18] في سخط الله تعالى وقهره {وَمَنْ أَرَادَ الاخرة} لصفاء استعداده وسلامة فطرته {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} اللائق بها وهو السعي على سبيل الاستقامة وما ترضيه الشريعة، وقال بعضهم: السعي إلى الدنيا بالأبدان والسعي إلى الآخرة بالقلوب والسعي إلى الله تعالى بالهمم {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ثابت الإيمان لا تزعزعه عواصف الشبه {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] مقبولًا مثابًا عليه، وعن أبي حفص أن السعي المشكور ما لم يكن مشوبًا برياء ولا بسمعة ولا برؤية نفس ولا بطلب عوض بل يكون خالصًا لوجهه تعالى لا يشاركه في ذلك شيء فلا تغفل {كُلًا نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ} لا تأثير لإرادتهم وسعيهم في ذلك وإنماهي معرفات وعلامات لما قدرنا لهم من العطاء، ورأيت في الفتوحات المكية أن هذه الآية نحو قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] وهو نحو ما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد سمعت ما فيه {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] عن أحد مطيعًا كان أو عاصيًا لأن شأنه تعالى شأنه الإفاضة حسا تقتضيه الحكمة {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} في الدنيا قتضى المشيئة والحكمة {وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 21] فهناك ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر رزقنا الله تعالى وإياكم ذلك أنه سبحانه الجواد المالك.
|